زوجة الفارس .. 25 عاماً في بيت المحترم
مع غروب شمس الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي .. رحل عن عالمنا النائب “أحمد أبو حجي” ذاك الفارس الذي ظل يحرس ويحمي ويصون بل يحارب وينتصر ويصنع توهجا حتى أخر ساعة من عمره، لقد رسمت مسيرة أبوحجى النضالية ملامح من المجد الشعبي، وتركت انطباعات وأكواد فكرية ونظريات ستظل منهجًا فى مدارسنا السياسية والنضالية والسلوكية، فلم يكن شخصا عاديا يحيا بآمال بسيطة هادئة، إنما كان شلالا متدفقا من التجديد والأفكار وتقديم الحلول والقضاء على المشكلات وتطييب الخواطر.
أشّرُف أنني كنت أنجب تلميذة في مدرسة أحمد أبوحجى، لا ألتقط أنفاسي حين يتحدث حتى لا أقطع حبل أفكاره وكلمات جمله ودقة عباراته، كان يلحظ ذلك منّي ، فيزيد تجويده وتعلو تأملاته، وتفيض تحليلاته، كان نعم المعلم وكنت نعم التلميذة التى تتلقي منه المعرفة الحياتية الشاملة وأنا أجثو بركبتّي على مقربة من وجهه ولحيته.
عشت ما يربو من 25 سنة فى بيت المحترم، كان إيماني به عقائديًا صادقا، لم يحدث أن خالفته رأيًا ولا بادلته منطقا ولا اعترضته موقفا، ولا غادرته جالسا، إنها أقدار الله الطيبة، أن يمنحنى هذا الشرف الرفيع لأكون على هذا النحو الشاهق من القرب المكانى والنفسي والعاطفي فى حياة أسطورة خالدة.
مات كالنخل العفي، وكأن الله قد اختصه باختيار موتته، لو كنت سألت “أحمد أبوحجى” تحب تموت إزاى؟ كان يقولك فى يوم انتخابات صاخب ينتهي بالفوز لى أو لمن أحب، ثم أصافح الجميع، أطمئنهم على تواصل المسيرة، وبقاء القيمة، وبعدها أُشير إلى حبيب تسكنه روحى بعد الممات ، ثم ارتجل على قدماي، لأجدد عهدى مع الناس وأوصي خليفتى خيرا بالغلابة، ثم أخر دعواي “أشهد ألا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله”، إلى لقاء رب كريم ، نسأله السلامة.
كنت أعلم منذ البداية أنه رجلا استثنائيا يحمل عمق الفلاسفة ، عمقا حصريًا يتناسب مع طبيعة من حوله، عمقا صوفيا لا يخلو من تجليات تزدان بخفة ظل وطلاوة لسان، وأعرف يقينًا أن الموت هو سنة الله التى لا تبديل لها، لكننى لم أصدق موته على هذا النحو الخاطف وفي هذا التوقيت الفارق ذا الدلالة الملحوظة، ظننت أن “أحمد أبوحجي” لم يمت بل يختبرنا بموته ، فالعظماء لا يموتون إنهم يتظاهرون بالموت فقط، ومن ثم علينا أن نتظاهر برحيلهم ونبكيهم، ظننت أنها واحدة من “عمايله وحركاته” لكن الأمر لم يكن كذلك ، كان موتًا مفجعًا – وإن كان على طريقته التى تمناها – ومازلت لا أصدق! إن عمر بن الخطاب نفسه لم يصدق موت حبيبه النبي الأكرم حتى جاءه الصديق أبو بكر وقرأ عليه: “وما محمد إلا رسول ..” فقال: كأنى أسمعها لأول مرة!
اشتاق إليه كل ثانية، أبكيه فى مطلع كل شمس وفى غروبها ، أرجو من الله أن يفسح إلى مكانًا إلى جواره في روضة قبره، الاشتياق إلى حبيب ميت مميت، فتح خزانة الذكريات والسفريات والحكايات والمناورات والاصلاحات والمواقف والموافقات على الطلبات والرد علي التليفونات والتساؤلات وحب الناس وجمال الطلة وحدّة النظرة و …. يا الله، وأين تذهب المسكينة من كل ذلك وهو يحاصرها بسعادة كل يوم؟!
في مجلس النواب وفي العمل السياسى يشير جميع من عرفه من كافة النواب والسياسيين، أننى أصبحت شديدة الشبه السياسي به، أحاكي طريقته في كافة المواقف، أداء متطابق على نحو جيد، نفس القلب ونفس الموقف، ونفس رد الفعل، ونفس اليقظة ونفس المواجهة ونفس الانحياز للناس، أفرح من إشاراتهم فرحًا بالغًا، ثم اختلى بعيدا لأبكي فراقه بكاءً صادحًا، فلا تعويض فى العالم يعوضني رحيله ولا سعادة سيلامسها قلبي من بعده.
كان بيقولي أنتي هتنجحي كنائبة لأنك تدربتي وعشتي فترة إحماء وتجهيز كبيرة، ونصيحتي يا ألفت أوعي تنسي الناس ولا خدماتهم، وبلاش شغل النواب وتقفلي تليفونك، إهتمي وإشتغلي بقلبك، العمل العام صعب وأحيانا مهين، إنما النجاح طعمه يزيح الآلآم وينهي المتاعب، ويجدد الطاقة، والنجاح معناه قربك من ربنا ووقفتك مع الغلابة وأصحاب الحاجات.
وأقول له: أنت صنعتني وهطول رقبتك وهكمل في مسيرتك وأواصل مجدك، بس بتقول كده ليه، ربنا يخليك لينا وتعيش وتعمل وتكمل بنفسك وأنا حلو عليا أكونلك مساعدة لطيفة وسكرتيرة تنظم مواعيدك، وخادمة لمصالحك، فيقولي: أصيله وجدعة من يومك، إنما الدنيا متفاته وكله رايح .. وراح بعدها.
عيد بدون الحبيب ، هو عيد تملأه الدموع، وتعوقه المواجع، لكن عزائي هو مجمل ما استمع إليه من دعوات الناس الصادقة بطيب المرقد، وأنه في مكان أجمل يزهو نورا وقبولاً ، ليتركنا فى مكان أسوء غائم موحش! ..
سلامًا لروحك وطبت حيًا وميتًا أيها النبيل المزروع فى قلبي وقلوب أحبابك.
لا تنسوا أحمد أبوحجي وفضلًا واصلوا الدعوات الصالحات فهى تصله وهو يتسلمها، ويسمعها ، فإن غاب جسدا، فقد بقيّ روحًا، تزور وتتوادد وتعرف، وترد التحية بأحسن منها .. كما لو كان حيًا تمامًا.